موضوع: حيات فاطمة الزهراء عليها السلام السبت أبريل 05, 2008 5:20 pm
....يتبع
في بيت عليّ (عليه السلام)
ما إن تجهز النسوة للمسير، حتى أركب الرسول بنفسه ابنته على بغلته الشهباء، وسلم زمامها إلى سلمان الفارسي، وسار خلفهما حمزة وعقيل وجعفر، وغيرهما من أقرباء الرسول، وقد امتشقوا سيوفهم يمشون الهوينا إلى بيت علي، بينما كانت زوجات النبي، ونساء المهاجرين والأنصار، يمشين وهنّ ينشدن الأهازيج في حين قدمت كل من نساء النبي أبياتاً من الشعر، هديةً للعروس، وكانت أبيات أم سلمة هي الأفضل والأبلغ. وهكذا حتى وصل الموكب إلى بيت علي، وتعالت صيحات التكبير، وقام الرجال بمصافحة علي مباركين، ثم نادى النبي علياً إليه، وأخذ يد فاطمة ووضعها في يد علي قائلاً: «بارك اللّه في ابنة رسول اللّه». ثم دعا لهما قائلاً: «اللّهم بارك فيهما، وبارك عليهما ...
وإني أعيذهما بك وذريتهما من الشيطان الرجيم».
وقام أصحاب الرسول بتقديم الهدايا إلى العروسين الجديدين. وهكذا تم زواج علي من فاطمة، بعد أيامٍ من معركة بدر، و{ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء، واللّه ذو الفضل العظيم}. الحديد - الآية 21.
الحياة الزوجية
منذ ذاك، عاش علي وفاطمة في بيتهما المتواضع، عيشة ملؤها الحب والهناء، وكان النبي في كل مناسبة يزورهما ويجلس إليهما، ويوصيهما بالصبر والاستقامة، ومما قاله لابنته يوماً: «إنّ اللّه اختار من أهل الأرض رجلين، أحدهما أبوك والآخر زوجك».
كانت فاطمة زوجة صالحة، فلم تكن لتحزن إن غاب زوجها للجهاد في سبيل اللّه، وما كان أكثر غيابه كانت تهيىء له عدة الحرب ولوازم السفر. كما كانت تبث فيه الشجاعة، وتشدد من عزيمته وعدم تهيبه من الموت في سبيل اللّه. وما أحرى بكل زوجة مسلمة أن تجعل من بنت الرسول قدوةً حسنة، وأسوةً صالحة.
كانت تعيش مع علي (ع) في جو تكتنفه القداسة والنزاهة. وتحيط به عظمة الزهد وبساطة العيش، وكانت عليها السلام تعرف لزوجها مكانته العظمى، ومنزلته العليا عند اللّه تعالى، وتحترمه كما تحترم المرأة المسلمة إمامها، وتطيعه كما ينبغي، لأنّه أعز الخلق إلى رسول اللّه، وأخوه وخليفته ووصيه،
وكان علي عليه السلام يحترمها ويجلّها، لا لأنّها زوجته فقط، بل لأنها أحب الخلق إلى رسول اللّه، نورها من نوره، وصبرها من صبره، وتواضعها من تواضعه، لأنّها سيدة نساء العالمين.
لقد عاشت حياةً لا يعكرها الفقر، ولا تغيرها الفاقة (الفقر الشديد) كانت تقوم بأعمال البيت، وتطحن القمح والشعير حتى تدمى يداها الطاهرتان، وتعجن وتخبز. كانت الزوجة المسلمة المثال.
كانت إلى جانب هذا لا تنسى واجبها في الجهاد في سبيل اللّه، ففي وقعة أحد وقفت فاطمة تغسل جبين أبيها الطاهر، وتبلسم جراحات علي، لم تكن - كالكثير من النساء - تبدي أي عجز أو حزن أو بكاء أيام الشدة، لأنّها كانت امرأة عملٍ وجهادٍ، لا امرة عويلٍ وبكاء.
أجر الرسالة
في السنة الثالثة للهجرة، رزقت فاطمة ولدها البكر وأعطاه الرسول اسم «حسن»، كما رزقت ابنها الثاني في السنة التالية، وسمّي «حسيناً» أي «الحسن الصغير». وكان سرور النبي بمقدم هذين الولدين عظيماً، فقد كانا حقاً، بمثابة أجرٍ للرسالة، وتعويضٍ عن المشاق، التي تحملها رسول اللّه، في سبيل هذه الرسالة. وممّا قاله (ص) بحقهما: «الحسن والحسين، ابناي وريحانتاي، وسيدا شباب أهل الجنة».
التطهير
في أحد الأيام، وبينما كانت فاطمة وعلي والحسن والحسين في بيت أم سلمة، نزل ملاك الرحمن، وتلا هذه الآية: {إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت، ويطهّركم تطهيراً} الأحزاب - 33. ولما نزلت هذه الآية تناول النبي كساءً ودخل تحته، مع علي وفاطمة والحسن والحسين، وقال: «اللّهم إنّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي، وحامتي، لحمهم لحمي ودمهم دمي، يؤلمني ما يؤلمهم ويحزنني ما يحزنهم، أنا حرب لمن حاربهم وسلم لمن سالمهم، وعدو لمن عاداهم، ومحبّ لمن أحبهم، إنّهم مني وأنا منهم، فاجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك وغفرانك ورضوانك علي وعليهم، وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً».
وكانت حياتهم فعلاً منزهة عن الخطأ والزّلل، وكانت خصالهم العظيمة آيةً من آيات اللّه، للناس جميعاً، عالمهم وجاهلهم، ولكنّ أكثر الناس لا يتفكّرون.
غضب فاطمة من غضب اللّه
من هنا كان اهتمام النبي بفاطمة، وعنايته بها، لا لكونها ابنته - والرسول أجل من أن يهتم بأحدٍ لمجرد النسب - بل لأنّها كانت إنسانةً تعرف اللّه حق معرفته، وكانت تتجلّى فيها صفات الرسول الأكرم، ولأنّ اللّه سبحانه أشار إلى أنّ فاطمة الطاهرة المطهرة، ستكون أمّاً لأحد عشر إماماً معصوماً، وقد بين الرسول مرّاتٍ هذه المزايا ونوّه بها، قال يوماً أمام جمع من كبار المسلمين، وكما ورد في صحيح البخاريّ: «فاطمة بضعة منّي، فمن أغضبها فقد أغضبني». وخاطبها مرّةً قائلاً: «يا فاطمة، إنّ اللّه يغضب لغضبك ويرضى لرضاك».
ما بعد الأب
شارفت الأيام السعيدة على نهايتها، إذ مرض رسول اللّه مرضاً شديداً، وما لبث أن أطبق عينيه الكريمتين وانتقل إلى جوار ربّه، وبدأت رحلة فاطمة مع المصاعب والآلام، لأنّ كل شيءٍ تغير، ومرة واحدة، بعد رحيل النبي الأكرم.
فقد عين جماعة من الصحابة أبابكر خليفة، وبايعه أكثر الناس إثر ذلك، أمّا علي عليه السلام، فكان يرى بعد ارتحال الرسول، أنّ الإسلام بحاجةٍ ماسةٍ لوحدة المسلمين ورص الصّفوف، لذا فقد اختار الصّمت، ولم يطالب بحقّه في الخلافة، حرصاً على هذه الوحدة، والتي ما يزال الإسلام بحاجةٍ إليها، وسيبقى إلى يوم الدّين.
لكنّ فاطمة عليها السلام. كانت ترى من واجبها أن تنبّه الناس إلى الخطأ الذي وقع، فقصدت مسجد أبيها الرسول، حيث كان الأنصار مجتمعين إلى الخليفة، وهناك أوضحت أمام الملإ حق الإمام عليّ (ع). وحذّرت الناس من سوء العاقبة إذا حلّت الفرقة بينهم محلّ الوحدة، التي كانت أيام رسول اللّه. فالمستقبل ينذر بشر كبير، إن اختار الناس السكوت عن الحق. كما أوضحت أنّ مزرعة «فدك» تخصّ آل الرسول، وليست ملكاً لعامة المسلمين، كما قيل، وابنة الرسول الكريم وبضعته أجلّ وأنزه من أن تستولي على ما ليس من حقّها. إنّه للعجب العجاب، أن تتّهم بنت رسول اللّه بهذه التهمة الظالمة أليست ممن طهّرهم اللّه وأذهب عنهم الرجس؟ أليست ممّن {. . . يطعمون الطّعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً} (الدهر - .
{فبايّ حديثٍ بعده يؤمنون}؟ (الأعراف - 185).
فاطمة (عليها السلام) على فراش المرض
بعد هذه المتاعب الشديدة، ارتمت فاطمة في أحضان المرض. واختارت طريق الصمت والاعتزال، فجاء بعض نساء المهاجرين والأنصار لعيادتها، ولمّا سألنها عن حالها أجابت بعد أن حمدت اللّه وصلّت على أبيها: «أصبحت واللّه عائفةً لدنياكنّ، قاليةً لرجالكن . . . وبئس ما قدّمت لهم أنفسهم . . . وما الذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا منه واللّه نكير سيفه . . وتنمّره في ذات اللّه عزّ وجل . . . {ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} {أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أم من لا يهدّي إلاّ أن يهدى، فما لكم، كيف تحكمون} ؟ (يونس - 35)
لمّا سمع الرجال قولها، جاء إليها قوم من وجوه المهاجرين والأنصار معتذرين، وقالوا: يا سيدة النساء،
لو كان أبوالحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد ونحكم العقد لما عدلنا إلى غيره فقالت: «إليكم عني فلا عذر بعد تعذيركم، ولا أمر بعد تقصيركم».
الرسالة الأخيرة
لما اشتدت وطأة المرض على الزهراء قالت لزوجها. «يا ابن عم، إنّه قد نعيت إلي نفسي، وإنني لا أرى ما بي إلاّ أنني لاحقه بأبي ساعةً بعد ساعة، وأنا أوصيك بأشياء في قلبي». قال علي: «أوصيني بما أحببت يا بنت رسول اللّه . . . قد عزّ علي مفارقتك وفقدك . . . واللّه لقد جدّدت علي مصيبة رسول اللّه . . . أوصيني بما شئت فإنّك تجدينني وفياً، أمضي كلّ ما أمرتني به، وأختار أمرك على أمري». قالت: «ادفني في الليل . . . وعفّ موضع قبري، ولا تشهد جنازتي أحداً ممّن ظلمني».«يا ابن عمّ، إن أنت تزوّجت امرأةً بعدي فاجعل لها يوماً وليلة، واجعل لأولادي يوماً وليلة، يا أبا الحسن، ولا تصح في وجوههما فيصبحان يتيمين غريبين منكسرين، فإنّهما بالأمس فقدا جدّهما، واليوم يفقدان أمّهما، فالويل لأمّةٍ تقتلهما وتبغضهما».
ثمّ قامت عليها السلام، فاغتسلت وتمدّدت في فراشها، وأسلمت الروح مستبشرةً بلقاء أبيها وحبيبها رسول اللّه.
وفقد الإمام بفقدها زوجةً صالحةً، وأمّاً حنوناً طاهرة، وشريكة حياةٍ، في ريعان الشباب ونضارة الحياة.
كانت هذه هي الرسالة الأخيرة للزهراء عليها السلام، وكانت بحقّ درساً بليغاً، وعبرةً للمعتبرين. فقد اختارت أن تشيع وتدفن ليلاً في قبر مجهول، كي لا يشترك في جنازتها من تلوّث بالانحراف. واختارت بعملها هذا أن تسجّل اسمها في سجل المظلومين، ليكون رمزاً للظلم والحرمان على مدى الأزمان.
علم أهل المدينة بموت بنت الرسول، فعمّ الحزن الناس، وتقاطروا إلى بيتها للصلاة عليها وتشييعها، وكم كانت صدمةً مؤلمةً لهم حين علموا أنّ دفنها قد تمّ ليلاً، بعد أن صلّى عليها عليّ ونفر من أصحابه.
وكانت هذه قصّة فاطمة (عليها السلام)
نعم . . إنّها قصة فاطمة الكبرى، فاطمة الطاهرة الزهراء.
إنّها الابنة الوحيدة التي بقيت من أثر الرسول.
إنّها التي أنجبت لأمّة الإسلام حسناً وحسيناً وزينب الكبرى.
إنّها الزوجة التي وقفت مع زوجها في خندقه.
إنّها بضعة ومثال من رسول اللّه، وعظمته وفضائله.
إنّها أم الحسن والحسين، اللذين في كلّ منهما عليّ آخر.
فاطمة التي كانت أمّاً لكلّ القادة الأبرار.
فاطمة التي علمها من علم الرسول، ومحبّتها من محبّته، وغضبها من غضبه.
فاطمة التي طهّرها اللّه سبحانه، فكانت الطهر في القول والفعل.
سلام على من قدّمت للإسلام خير ما تقدّمه امرأة.
سلام على من هي المثال والقدوة في حياتها وجهادها واستشهادها.
وسلام على كل من سار سيرتها، ونهج نهجها، وخطا في درب الحق على خطاها.